لا أعتقد أنه يوجد هناك فرق بين الفن الشرقي و الفن اللا شرقي . فدائما تحدث هناك حالة تبادلية بين الأنسان وما حوله من طبيعة المكان و البيئة التي يعيش فيها , ونتيجة هذا الأحتكاك بين الفنان و ما حوله تحدث الرؤية و يحدث التذوق والأبتكار و الأبداع , و هناك حتما لابد من وجود قيمة عامة تشترك فيها هذه المناخات الطبيعة المختلفة و هذه الثقافات , وهذه الفنون جميعا .

و أنطلاقا من هذا المفهوم , يسعدني أن أنقل لكم حالة جزئية شعورية من الحالات التي يعيشها الفنان.

عندما أنتقلت الي الأسكندرية للأقامة بها , هذا منذ زمن بعيد , كانت قد نشأت بيني و بين هذا الثغر روح صداقة حميمة, وكان هناك أول ما سمعت عن الفنان المعروف فينسنت فان جوخ , الفنان الهولندى , يقولون كان فان جوخ يحب فتاه فقطع أذنه لكي يعبر لها أو يحاكي لها نفسه بأنه يحبها , أو ربما قد قالت له هذه الفتاه في لحظة رومانسية ما " أذنك جميلة " , فقطعها في لحظة خاصة بينه و بين نفسه وأعطي أياها لها هدية , و يقال أيضا أنه قد زاره صديقه جوجان ذات ليلة و حدث بينهما حوار أو مناقشة ساخنة نقدية حول أعماله , فقطع فان جوخ أذنه عقب مغادرة صديقه جوجان لمنزله بعد هذا الحوار الساخن , كرد فعل نفسي علي هذا الحوار.

أعتقد أن الحوارات التي كانت تدور بين هؤلاء الصديقين فان جوخ و جوجان كما ينقل لنا التاريخ كانت تدور حول اختلافات في الرؤية و الرأى بينهما خاصة في اسلوب التقنية التشكيلية, واذا ما قارنا أعمالهما بعضهما ببعض في عصرنا الحديث هذا , فتبدو لنا أن أعمال فان جوخ بالنسبة ل جوجان غير كاملة و بالتالي كان جوجان هو المهاجم و بالطبع ينبغي أن يكون فان جوخ في الطرف الآخر كمدافع

و بالرغم أنه كانت الحركة الفنية أثناء حياة فان جوخ فعالة و نشيطة مع دخول المدرسة التأثيرية ( التنقيطية ) الا أن ظلت أعمال فان جوخ متميزة بتفاصيلها الدقيقة و حالتها الفريدة.

url=http://upload.arb7.com][/url]

.هذه احدى أعمال جوجان , صديق فان جوخ , ( صورة شخصية له )

.علي كل حال كانت جرأة فان جوخ في أن يقدم علي قطع أذنه هو هذا الحدث المروع , و الحدث المتميز و المثير للدهشة و من ثم قد ذهب نقاد و محللي الفن بالقول أن الفنان لابد أن يكون حرا و جريئا حتي يعطي لنا فنا, و بالتالي ينبغي أن يكون مجنونا , ليس الجنون في حد ذاته , ولكني أرى أنه ينبغي علي الفنان بشكل عام أن يكون طليقا في أفكاره و ابداعاته كالمجنون , بمعني آخر , أن يكون الفنان جريئا كطلاقة المجنون حينما يتبادل مع البيئة و الطبيعة التي يعيش فيها, حينئذ يستطيع الفنان بحريته هذه أن يبدع و يكتشف في وعيه و وجدانه و في اعماق نفسه قنوات جديدة يأتي منها الأبداع , هذا وليس بالضرورة أن يقطع أذنه. فالجنون في الفن حالة شخصية و فردية . أنظر مثلا الي شخصية سلفادور دالي , فهو يهندم ملبسه بشياكة و أناقة لا مثيل لها في عالم الفنانين خاصة في عصره , أنظر كيف كان يهذب شعره و يصفصفه ويطلق العنان لشاربه المترامي الأطراف أو مثلا باوبلو بيكاسو عارى الصدر حافي القدمين ......., .. وهكذا

url=http://upload.arb7.com][/url]

هذه صورة للفنان سلفادور دالي ألتقطها له في متحف الشمع بأمستردام ابريل 2006

هذا وكان عندما سافرت الي مدينة أمستردام فكانت أولي رغباتي أن أذهب الي متحف هذا الرجل " فنسنت فان جوخ " , و ما أن أسرعت خطاى حتي وجدت نفسي مباشرة أمام لوحات فينسنت فان جوخ , انها حالة أخرى من التأمل عندما ترى نفسك مباشرة امام العمل الفني نفسه , و لن أنسي آخر لوحة رسمها قبل أن ينتحر.




هذه آخر لوحة صورها فان خوخ قبل أنتحاره


لا أعلم كيف كانت تبدو له اللحظة التي أقدم بها فينست فان جوخ علي قتل نفسه , لا أعلم ماذا حدث له في هذه اللحظة , وكيف كانت اللحظة السابقة لها و كيف كانت اللحظة التي تلتها . قد يكون آخر ما رآه في آخر لحظة في حياته هو هذا المنظر الذى صوره , هذا المنظر , هذه الأعشاب المتموجة المتحركة , هذا الوهج و سيقان الزرع التي قد يكون قد سقط عليها بعد أن قتل نفسه , فكانت آخر ما رآه , أما اللحظة السابقة لأقدامه علي قتل نفسه , فأعتقد أنها لحظة كالتي تأتي الي أى انسان يحتضر , هذه اللحظة الخاصة المجهولة التي يعيشها كل أنسان مع نفسه قبل أن يفارق الحياه , أنها لحظة نادرة يقترب فيها الانسان الي نفسه حتى يكاد أن يدرك فيها نفسه أو يرى نفسه لمدة لحظة قبل أن يفارق الحياه , أعتقد أن فان جوخ كان قد أدرك هذه اللحظة وهو علي قيد الحياه قبل أن يأتيه الموت , فكان لا بد أن يذهب هو اليه , الي الموت ليكتمل قانون اللحظة الأخيرة و هي لحظة الموت اذا أفترضنا هذا, فأبدع لوحة جديدة ذات عناصر و معطيات جديدة تشبه هذا الابداع الذى نشاهده علي سطح لوحاته ألا وهو قتل نفسه ,

معذرة فأنا لا أستطيع أن أفهم هذا , من منكم أيها القراء أن يعطيني صورة لهذه اللحظة بأفكار فنان مجنون؟

لآ أعلم , فبينما كنت أشاهد لوحات فان جوخ المعلقة علي حوائط متحفه , كنت أسمع أصوات أنفاسه و لهيثه و نهيجه تأتيني من الغيب , هذا الصوت الذى يحدث أثناء رسمه لهذه اللوحات مختلطا بصوت فرشاته و هي تجرى مسرعة علي سطح لوحاته و صوت احتكاك ملابسه بعضها ببعض اثناء حركة ذراعه بالفرشاه , لا أستطيع أن أقول سوى أنه كان هناك وهج الضوء و حفيف سيقان الزرع , ومثل هذه الطيور السوداء المهاجرة .

لقد صورت متحف فنسنت فان جوخ , ولكن للأسف برنامج تحميل الصور لم يقبلها لسبب فني ما , علي كل حال يمكنكم رؤية المتحف كاملا في هذا السايت :
www.vangoghmuseum.nl

المتحف يتكون من مبنيين , المبني الرئيسي صممه الفنان الهولندى المعروف خييرت ريتفيلد Gerrit Rietveld و تم افتتاحه عام 1973و يضم المتحف معظم أعمال الفنان فان جوخ و معظم رسائله التي كان يرسلها الي شقيقه تيو .Theo و كذلك بعض مقتنيات الحفر الياباني ,و التي كان قد تأثر بها في أعماله , وبالداخل قاعة تقام فيها معارض لأساتذة الفن و التي لها علاقة بفن فان جوخ و بالفن الهولندى..

أما المبني الآخر و هو مبني حديث فلقد تم افتتاحه عام 1999 وقد صممه المهندس المعمارى المعروف كيشو كوريكاوا
Kisho Kurokawa
www.kisho.co.jp

و لقد ساهم في التصميم و الترميم و توصيل القاعتين المهندس مارتين فان خور Martien van Goor
و يقام في هذه القاعة الملحقة معارض دورية علي مدار السنة و هي معارض لأعمال لها علاقةبأعمال فان جوخ , مثلا أقيم في هذه القاعة منذ حوالي عامين معرض عن الضوء , و هذا العام معرض مشترك أعمال رامبرانت و كرافادجو , ثم الآن معرض عن التعبيرية.
www.ggharchitecten.nl




هذه صورة تفصيلية للقاعة الجديدة لمتحف فان جوخ , لاحظ أن علي الأرض موجات رقيقة جدا من الماء تسير متموجة علي الأرض من اقصي الشمال من حدود نصف الدائرة التي تراها ناحية الجدار الي ناحية اليمين حيث هذه الأعمدة , عند رؤيتك للمبني عن قرب يشعرك بالأبعاد الفراغية القريبة و البعيدة للمبني و الفراغ الذى يحيط به و بالتالي يتكون في داخلك شعور مزدوج , شعور يعبر عن سيطرة الأنسان عامة بذهنه علي هذه الفراغات ويحدث ذلك لأنك تحتويه برؤتك البصرية والآخر هو شعور سيطرة هذه الفراغات علي الأنسان ,فتشعر بأن حجمك صغيرا بجانب أمتداد هذه الفراغات الأنشائية و ما حولها , في نفس الوقت تشعر بالحياه والأطمئنان حين ترى ببصرك اندفاعات هذه موجات الماء الصغيرة علي هذه المساحة الأرضية.و كأنها تداعبك , , هذا شعور شخصي, ليس بالضرورة أن يكون هذا ما يهدف اليه المهندس صاحب فكرة أنشاء هذا المبني.

url=http://upload.arb7.com][/url]


هذه لوحة صورها فينسنت فان جوخ في مدينة أرليس Arles في جنوب فرنسا عام 1888 . و لقد أعطي لها عنوانا لاموزاميه ( La Mouseme) , زيت علي توال , و هي معروضة في القاعة القومية للفنون National Gallery of Art في , مدينة واشنطن Washington مقتنيات خاصة Chester Dale Colection , و هي لفتاه يقال انها كانت تبلغ من العمر الثانية عشر عاما , وهو عمرذات حالة خاصة حينما تتحول الفتاه فيه من فتاة الي أمرأة , لاحظ اللون البرتقالي في عيونها و علي شفاتيها وعلي البلوزة في خطوط ثم في الفستان في شكل نقط , و هذه أحد أعمال فان جوخ التي يظهر فيها بوضوح تأثره بالفن الياباني مما نلمس في هذا العمل أستخدام اللون والتفاصيل الدقيقة مثل الأكسسوار الأحمر المتدلي علي جانب وجهها من الناحية الشمال و كذلك الزارير و الزهور التي تمسك بها يدها. و يقال أن هذه الفتاه يابانية الأصل و أنها توفت في السادسة عشر من عمرها.



هذه أحد أعمالي الأخيرة صورتها في ربيع عام 2006 بعنوان ( لا موزامبه ) , التقنية هي ألوان أكريلك علي توال . 80 X100 سم ( مقتنيات خاصة ) , و لقد أستوحيتها من عمل فينسنت عاليه , وهي لنفس شخصية ( لا موزاميه) من الخلف , أردت تصوريها من الخلف , هذا لأنني شغوف بالمعرفة , أردت أن أراها كيف تبدو من الخلف , و لقد رسمت مجموعة لوحات مختلفة مستوحيا أياها من هذا العمل , في هذا العمل عاليه أستخدمت تقريبا نفس الألوان التي أستخدمها فينست ماعدا لون الخلفية , اذا نظرت الي (لاموزاميه - فان خوخ) فتجد أنه قد لون الخلفية بلون يغلب عليه الطابع البارد (اللون الأخضر الرمادى الأزرق) , هذه الألوان مناخ البيئة التي نشأ فيها فان جوخ , وهو مناخ هولندا ,أيضا هذه التقنية ( تقنية الخلفية ) مازالت تستخدمه المدرسة الهولندية و يستخدمه معظم فناني هولندا في ذاك الوقت , و كان فان خوخ قد تعلم هذه التقنية في هولندا قبل انتقاله الي باريس.

أما أنا فلقد أستخدمت هذا اللون الدافيء الأصفر الأورانج , ليس فقط لأنني نشأت في بيئى الدافئة مصر و لكن لأن فان خوخ كان قد لون عيون (لا موزاميه) باللون البرتقالي , فأردت أن أصور الخلفية بنفس اللون , ( اللون البرتقالي ) , و كأن هذه الفتاه ترى كل ما حولها بنفس لون عيونها , مما يبعث و يثير الدفيء في نفسها و في الشعورالعام و في ما حولها من طبيعة , هذه حقيقة نفسية و ذهنية تعيشهما الفتاه في العالم أجمع في هذه الفترة الزمنية التي تتحول فيها الفتاه الي أمرأة. أما بقية الأعمال التي صورتها لنفس العمل فلقد أستخدمت فيها مناظير متنوعة و ألوان مختلفة.

الذى أستهواني أيضا في هذا العمل أن كلمة La Mouseme كلمة فرنسية و هي في الأصل كلمة صينية معناها المرأة الصغيرة , ولقد دخلت هذه الكلمة الي اللغة الفرنسية في الفترة الزمنية التي تأثرت بها أوروبا الغربية بالثقافة و الفن الصيني عن طريق التجارة المتبادلة , خاصة في فرنسا فدخلت هذه الكلمة اللغة الفرنسية و أصبحت تحمل نفس المعني .

تذكرني هذه الكلمة بكلمة تشبهها في مصر, و هي كلمة تتردد بين الأوساط المختلفة حتي يومنا هذا, هي( مادموزيل) , هذه الكلمة تستخدم فقط ككلمة ندائية للمرأة الصغيرة و تقال هكذا ( مدموزيل ... يا مدموزيل ) , تقال أيضا بالزال بدلا من الدال هكذا ( مازموزيل ) , و تعني باللغة العربية (الآنسة) , و هي علي حسب مفهومي الشخصي الفتاه في ربيع العمر.

أعتقد كلمة (مادموزيل ) دخلت مصر عند أختلاط أبناء مصر المبعوثين للخارح خاصة في فرنسا أمثال مصطفي كامل و طه حسين وغيرهم من الذين درسوا في فرنسا , فنقلوا هذه الكلمة الي مصر علي سبيل التأثر , بالطبع أنتقلت غيرها من الكلمات مثل ( مرسيه) و تعني شكرا ومثل كلمة ( سوفاج ) و تعني فلاح , ا بقيما بقي من هذه الكلمات و أنقرض ما أنقرض , ثم أنتقلت الي الشارع المصرى بعد الثورة و كأن هذه الكلمات كانت مقيدة داخل قصور البشوات فلما أقامت الثورة كان لا بد أن تتحررهذه الكلمات هي الأخرى من هذه البلاط و تخرج من القصور و تختلط بالناس فيتبادلونها.

تأثرت مصر بفرنسا عن طريق المبعوثين المصريين و المبعوثين الفرنسيين , و لكن كان التأثر غالبا في مجال الأدب و الترجمة فقط , و كان التأثر لطبقة محدودة من باشوات مصر ولم يتأثر الشعب بها الا القليل منهم , و لم يروا هؤلاء المبعوثيبن أن نابليون عندما غزا مصر ورأى رأس أبو الهول خر ساقطا من فوق صهوة فرسه يتأمل لمسات هذا الفن و تحول وجود الفرنسيين في مصر من محتلين الي متذوقين و عشاق للفن المصرى.



مع تحياتي,

شوقي عزت